فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏118 - 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ ‏{‏مُخْتَلِفِينَ‏}‏ في الهدى‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏مُخْتَلِفِينَ‏}‏ في الرزق، يُسخّر بعضهم بعضا، والمشهورُ الصحيح الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين‏.‏ أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا‏:‏ ‏"‏إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومن هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما أنا عليه وأصحابي‏"‏‏.‏

رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة

وقال عطاء‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى والمجوس ‏{‏إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ الحنَيفيَّة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أهلُ رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ قال الحسن البصري -في رواية عنه -‏:‏ وللاختلاف خَلَقهم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ خلقهم فريقين، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏105‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ للرحمة خلقهم‏.‏ قال ابن وهب‏:‏ أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجِيح، عن طاوس؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس‏:‏ اختلفتما فأكثرتما ‏!‏ فقال أحد الرجلين‏:‏ لذلك خلقنا‏.‏ فقال طاوس‏:‏ كذبت‏.‏ فقال‏:‏ أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة‏.‏ كما قال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب‏.‏ وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة‏.‏ ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ بل المراد‏:‏ وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ الناس مختلفون على أديان شتى، ‏{‏إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ فمن رحم ربك غير مختلف‏.‏ قيل له‏:‏ فلذلك خلقهم‏؟‏ ‏[‏قال‏]‏ خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه‏.‏

وكذا قال عطاء بن أبي رَبَاح، والأعمش‏.‏

وقال ابن وَهْب‏:‏ سألت مالكا عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏ وقد اختار هذا القول ابن جرير، وأبو عبيدة والفراء‏.‏

وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير‏:‏ ‏{‏وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ للرحمة، وقال قوم‏:‏ للاختلاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره، لعلمه التام وحكمته النافذة، أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة والحكمة التامة‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة‏:‏ ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم‏؟‏ وقالت النار‏:‏ أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين‏.‏ فقال الله عز وجل للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء‏.‏ وقال للنار‏:‏ أنت عذابي، أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها‏.‏ فأما الجنة فلا يزال فيها فضل، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه، فتقول‏:‏ قَطْ قط، وعزتك‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وكل أخبار نقصها عليك، من أنباء الرسل المتقدمين قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين -كل هذا مما نثبت به فؤادك -يا محمد -أي‏:‏ قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسْوةً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏في‏]‏ هذه السورة‏.‏ قاله ابن عباس، ومجاهد، وجماعة من السلف‏.‏ وعن الحسن -في رواية عنه -وقتادة‏:‏ في هذه الدنيا‏.‏

والصحيح‏:‏ في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نَجّاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قَصَصُ حق، ونبأ صدق، وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتوقر بها المؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121 - 122‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ‏}‏

يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على طريقتكم ومنهجكم، ‏{‏إِنَّا عَامِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ على طريقتنا ومنهجنا، ‏{‏وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ فستعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون‏.‏

وقد أنجز الله لرسوله وعده، ونصره وأيده، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض، وأنه إليه المرجع والمآب، وَسيُوَفِّى كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر‏.‏ فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه؛ فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد، بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال‏:‏ خاتمة ‏"‏التوراة‏"‏ خاتمة ‏"‏هود‏"‏ ‏[‏والله أعلم‏]‏ تم تفسير سورة هود‏.‏

تفسير سورة يوسف

‏[‏وهي مكية‏]‏

روى الثعلبي وغيره، من طريق سَلام بن سليم -ويقال‏:‏ سليم -المدائني، وهو متروك، عن هارون بن كثير -وقد نصّ على جهالته أبو حاتم -عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها، أو علمها أهله، أو ما ملكت يمينه، هَوَّن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما ‏"‏‏.‏

وهذا من هذا الوجه لا يصح، لضعف إسناده بالكلية‏.‏ وقد ساقه له الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم، عن هارون بن كثير، به -ومن طريق شَبَابة، عن مخلد بن عبد الواحد البصري عن علي بن زيد بن جدعان -وعن عطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حُبَيش، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فذكر نحوه وهو منكر من سائر طرقه‏.‏

وروى البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم‏.‏ وهو من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏}‏

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة ‏"‏البقرة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، ‏{‏الْمُبِينِ‏}‏ أي‏:‏ الواضح الجلي، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرفشهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏}‏ بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن‏.‏

وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير‏:‏ حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ ‏.‏ حدثنا حكام الرازي، عن أيوب، عن عمرو -هو ابن قيس الملائي -عن ابن عباس قال‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، لو قصصت علينا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏‏.‏

ورواه من وجه آخر، عن عمرو بن قيس مرسلا‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد العطار ، حدثنا عمرو بن محمد، أنبأنا خَلاد الصفار، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مُرَّة ، عن مصعب بن سعد عن عن سعد قال‏:‏ أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، قال‏:‏ فتلا عليهم زمانا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، لو قصصتَ علينا‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏ ثم تلا عليهم زمانا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، لو حدثتنا‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وذكر الحديث‏.‏

ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي، به‏.‏

وروى ابن جرير بسنده ، عن المسعودي، عن عَوْن بن عبد الله قال‏:‏ مَلّ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، حَدثنا‏.‏ ‏[‏فأنزل الله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا‏:‏ يا رسول الله، حدثنا‏]‏ فوق الحديث ودون القرآن -يعنون القصص -فأنزل الله‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏}‏ فأرادوا الحديث، فدلَّهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص‏.‏

ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة، المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سُرَيْج بن النعمان، أخبرنا هُشَيْم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله؛ أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال‏:‏ ‏"‏أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب‏؟‏ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا، لما وسعه إلا أن يتبعني‏"‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال‏:‏ جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك‏؟‏ قال‏:‏ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال عبد الله بن ثابت‏:‏ فقلت له‏:‏ ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال عمر‏:‏ رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا‏.‏ قال‏:‏ فسُرِّي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏والذي نفس محمد بيده، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حَظِّي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عُرْفَطة قال‏:‏ كنت جالسا عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر‏:‏ أنت فلان بن فلان العبدي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وأنت النازل بالسوس، قال‏:‏ نعم‏.‏ فضربه بقناة معه، قال‏:‏ فقال الرجل‏:‏ ما لي يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ اجلس‏.‏ فجلس، فقرأ عليه‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ‏[‏أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏]‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏}‏ فقرأها ثلاثا، وضربه ثلاثا، فقال له الرجل‏:‏ ما لي يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ أنت الذي نسخت كتاب دانيال‏!‏ قال‏:‏ مرني بأمرك أتبعه‏.‏ قال‏:‏ انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقْرأه ولا تُقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة، ثم قال له‏:‏ اجلس، فجلس بين يديه، فقال‏:‏ انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما هذا في يدك يا عمر‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا‏.‏ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار‏:‏ أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم‏؟‏ السلاح السلاح‏.‏ فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختُصِر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تَتهوَّكوا، ولا يغرنكم المتهوِّكون‏"‏‏.‏ قال عمر‏:‏ فقمت فقلت‏:‏ رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبك رسولا‏.‏ ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، به‏.‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏ وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة الواسطي، وقد ضعفوه وشيخه‏.‏ قال البخاري‏:‏ لا يصح حديثه‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي له شاهد من وجه آخر، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي‏:‏ أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثني عمرو بن الحارث، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري، عن الزبيدي، حدثنا سليم بن عامر‏:‏ أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم‏:‏ أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر، رضي الله عنه، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ويقولون‏:‏ إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة‏.‏ وإن نهانا عنها رفضناها، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا، أفنأخذ منه أو نترك‏؟‏ فقال‏:‏ لعلكما كتبتما منه شيئا‏.‏ قالا لا‏.‏ قال‏:‏ سأحدثكما، انطلقت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني، فقلت‏:‏ هل أنت مكتبي ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأتيت بأديم، فأخذ يملي علي، حتى كتبت في الأكرُع‏.‏ فلما رجعت قلت‏:‏ يا نبي الله، وأخبرته، قال‏:‏ ‏"‏ائتني به‏"‏‏.‏ فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت رسول الله ببعض ما يحب، فلما أتيت به قال‏:‏ ‏"‏اجلس اقرأ عليّ‏"‏‏.‏ فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن، فتحيرت من الفَرق، فما استطعت أجيز منه حرفا، فلما رأى الذي بي دَفَعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه، وهو يقول‏:‏ ‏"‏لا تتبعوا هؤلاء، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا‏"‏، حتى محا آخره حرفًا حرفا‏.‏ قال عمر، رضي الله عنه‏:‏ فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة‏!‏ قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا‏.‏ فخرجا بصلاصفتهما فحفرا لها فلم يألُوا أن يعمِّقَا، ودفناها فكان آخر العهد منها‏.‏

وكذا روى الثوري، عن جابر بن يزيد الجُعْفي، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري، عن عمر بن الخطاب، بنحوه وروى أبو داود في المراسيل، من حديث أبي قِلابة، عن عمر نحوه‏.‏ والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ اذكر لقومك يا محمد في قَصَصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه، وأبوه هو‏:‏ يعقوب، عليه السلام، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏"‏‏.‏

انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن عبد الله بن محمد، عن عبد الصمد به وقال البخاري أيضا‏:‏ حدثنا محمد، أخبرنا عبدة، عن عُبَيْد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الناس أكرم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أكرمهم عند الله أتقاهم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ليس عن هذا نسألك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فعن معادن العرب تسألوني‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهوا‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ تابعه أبو أسامة، عن عبيد الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ رؤيا الأنبياء وحي‏.‏

وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام‏:‏ أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلا ‏[‏سواه‏]‏ والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه‏.‏ رُوي هذا عن ابن عباس، والضحاك،

وقتادة وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل‏:‏ ثمانين سنة، وذلك حين رفع أبويه على العرش، وهو سريره، وإخوته بين يديه‏:‏ ‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا -فقال الإمام أبو جعفر بن جرير‏.‏

حدثني علي بن سعيد الكندي، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن عبد الرحمن بن سابط، ‏[‏عن جابر‏]‏ قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له‏:‏ ‏"‏بستانة اليهودي‏"‏، فقال له‏:‏ يا محمد، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له، ما أسماؤها‏؟‏ قال‏:‏ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء، ونزل ‏[‏عليه‏]‏ جبريل، عليه السلام، فأخبره بأسمائها‏.‏ قال‏:‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال‏:‏ ‏"‏هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏خرتان والطارِقُ، والذَّيَّال وذو الكَنَفَات، وقابس، ووَثَّاب، وعَمُودَان، والْفَيلَقُ، والمُصَبِّحُ، والضَّرُوحُ، وذو الفرغ، والضِّيَاُء، والنُّور‏"‏، فقال اليهودي‏:‏ إيْ والله، إنها لأسماؤها‏.‏ ورواه البيهقي في ‏"‏الدلائل‏"‏، من حديث سعيد بن منصور، عن الحكم بن ظهير‏.‏ وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما، وابن أبي حاتم في تفسيره أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير، به وزاد‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لما رآها يوسف قَصّها على أبيه يعقوب، فقال له أبوه‏:‏ هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد؛ قال‏:‏ والشمس أبوه، والقمر أمه‏"‏‏.‏

تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضَعَّفه الأئمة، وتركه الأكثرون، وقال الجوزجاني‏:‏ ساقط، وهو صاحب حديث حُسْن يوسف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قَصّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدًا، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما فخشي يعقوب، عليه السلام، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدا منهم له؛ ولهذا قال له‏:‏ ‏{‏لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا‏}‏ أي‏:‏ يحتالوا لك حيلةً يُرْدُونَك فيها‏.‏ ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدًا، فإنها لن تضره‏"‏ ‏.‏ وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد، وبعض أهل السنن، من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر، فإذا عُبرت وقعت‏"‏ ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث‏:‏ ‏"‏استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف‏:‏ إنه كما اختارك ربك، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، ‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ يختارك ويصطفيك لنبوته، ‏{‏وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ‏}‏ قال مجاهد وغير واحد‏:‏ يعني تعبير الرؤيا‏.‏

‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ وهو الخليل، ‏{‏وَإِسْحَاقَ‏}‏ ولده، وهو الذبيح في قول، وليس بالرجيح، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ أعلم حيث يجعل رسالاته، كما قال في الآية الأخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 10‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات، أي عبرةٌ ومواعظُ للسائلين عن ذلك، المستخبرين عنه، فإنه خبر عجيب، يستحق أن يستخبر عنه، ‏{‏إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا‏}‏ أي‏:‏ حلفوا فيما يظنون‏:‏ والله ليوسف وأخوه -يعنون بنيامين، وكان شقيقه لأمه -‏{‏أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ جماعة، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة؛ ‏{‏إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ يعنون في تقديمهما علينا، ومحبته إياهما أكثر منا‏.‏

واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر‏.‏ ويحتاج مُدّعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوَى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، وهذا فيه احتمال؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم‏:‏ الأسباط، كما يقال للعرب‏:‏ قبائل، وللعجم‏:‏ شعوب؛ يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم، والله أعلم‏.‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ‏}‏ يقولون‏:‏ هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم، ليخلو لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه، أو تلقوه في أرض من الأراضي -تستريحوا منه، وتختلوا أنتم بأبيكم، وتكونوا من بعد إعدامه قوما صالحين‏.‏ فأضمروا التوبة قبل الذنب‏.‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ‏}‏ قال قتادة، ومحمد بن إسحاق‏:‏ كان أكبرهم واسمه روبيل‏.‏ وقال السدي‏:‏ الذي قال ذلك يهوذا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو شمعون ‏{‏لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ لا تَصِلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، ولم يكن لهم سبيلٌ إلى قتله؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه، من الإيحاء إليه بالنبوة، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب، وهو أسفله‏.‏

قال قتادة‏:‏ وهي بئر بيت المقدس‏.‏

‏{‏يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ‏}‏ أي‏:‏ المارة من المسافرين، فتستريحوا بهذا، ولا حاجة إلى قتله‏.‏

‏{‏إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم عازمين على ما تقولون‏.‏

قال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ لقد اجتمعوا على أمر عظيم، من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين ابنه وحبيبه، على كبر سنه، ورِقَّة عظمه، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما‏.‏ رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل، عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 12‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏

لما تواطئوا على أخذه وطَرْحه في البئر، كما أشار عليهم أخوهم الكبير رُوبيل، جاءوا أباهم يعقوب، عليه السلام، فقالوا‏:‏ ‏{‏يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ‏}‏ وهذه توطئة وسلف ودعوى، وهم يريدون خلاف ذلك؛ لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له، ‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا‏}‏ أي‏:‏ ابعثه معنا، ‏{‏غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ‏}‏ وقرأ بعضهم بالياء ‏{‏يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يسعى وينشط‏.‏ وكذا قال قتادة، والضحاك والُّسدِّي، وغيرهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ يقولون‏:‏ ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 14‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يشق علي مفارقتُهُ مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفَرْط محبته له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة والكمال في الخُلُق والخلق، صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}‏ يقولون‏:‏ لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، ونحن جماعة، إنا إذًا لهالكون عاجزون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك، ‏{‏وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ‏}‏ هذا فيه تعظيم لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يُظهرونه له إكراما له، وبسطا وشرحًا لصدره، وإدخالا للسرور عليه، فيقال‏:‏ إن يعقوب عليه السلام، لما بعثه معهم ضمه إليه، وقَبَّله ودعا له‏.‏

وقال السدي وغيره‏:‏ إنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له، إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول، من شتم ونحوه، والفعل من ضَرْب ونحوه، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشَتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة، فسقط في الماء فغمره، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه، يقال لها‏:‏ ‏"‏الراغوفة‏"‏ فقام فوقها‏.‏

قال الله تعال‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يقول تعالى ذاكرًا لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر‏:‏ إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق، تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا له‏:‏ إنك لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ -قال ‏[‏مجاهد و‏]‏ قتادة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ بإيحاء الله إليه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك، وهم لا يعرفونك، ولا يستشعرون بك، كما قال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا صدقة بن عُبادة الأسدي، عن أبيه، سمعت ابن عباس يقول‏:‏ لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون، قال‏:‏ جيء بالصّواع، فوضعه على يده، ثم نقره فطن، فقال‏:‏ إنه ليخبرني هذا الجام‏:‏ أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له ‏"‏يوسف‏"‏، يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب -قال‏:‏ ثم نقره فطنّ -فأتيتم أباكم فقلتم‏:‏ إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كَذب -قال‏:‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ إن هذا الجام ليخبره بخبركم‏.‏ قال ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ لا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم‏:‏ ‏{‏لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب‏:‏ أنهم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا‏:‏ ‏{‏إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ‏}‏ أي‏:‏ نترامى، ‏{‏وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا‏}‏ أي‏:‏ ثيابنا وأمتعتنا، ‏{‏فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ‏}‏ وهو الذي كان ‏[‏قد‏]‏ جزع منه، وحذر عليه‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ‏}‏ تلّطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه، يقولون‏:‏ ونحن نعلم أنك لا تصدقنا -والحالة هذه -لو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك، لأنك خشيت أن يأكله الذئب، فأكله الذئب، فأنت معذور في تكذيبك لنا؛ لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا‏.‏

‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ أي‏:‏ مكذوب مفترى‏.‏ وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة، وهو أنهم عمدوا إلى سَخْلة -فيما ذكره مجاهد، والسدي، وغير واحد -فذبحوها، ولطخوا ثوب يوسف بدمها، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب، وقد أصابه من دمه، ولكنهم نسوا أن يخرقوه، فلهذا لم يَرُج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب، بل قال لهم معرضًا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من تمالئهم عليه‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ فسأصبر صبرًا جميلا على هذا الأمر الذي قد اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، ‏{‏وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ على ما تذكرون من الكذب والمحال‏.‏

وقال الثوري، عن سِمَاك، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ قال‏:‏ لو أكله السبع لخرق القميص‏.‏ وكذا قال الشعبي، والحسن، وقتادة، وغير واحد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الصبر الجميل‏:‏ الذي لا جزع فيه‏.‏

وروى هُشَيْم، عن عبد الرحمن بن يحيى، عن حبَّان بن أبي جَبَلة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏صبر لا شكوى فيه‏"‏ وهذا مرسل‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال‏:‏ ثلاث من الصبر‏:‏ ألا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك‏.‏

وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة، رضي الله عنها، في الإفك حتى ذكر قولها‏:‏ والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف ، ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 20‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عما جرى ليوسف، عليه السلام، حين ألقاه إخوته، وتركوه في ذلك الجب فريدا وحيدًا، فمكث في البئر ثلاثة أيام، فيما قاله أبو بكر بن عياش‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك، ينظرون ما يصنع وما يُصنع به، فساق الله له سَيَّارة، فنزلوا قريبًا من تلك البئر، وأرسلوا واردهم -وهو الذي يتطلب لهم الماء -فلما جاء تلك البئر، وأدلى دلوه فيها، تشبث يوسف، عليه السلام، فيها، فأخرجه واستبشر به، وقال‏:‏ ‏{‏يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ‏}‏ وقرأ بعض القراء‏:‏ ‏"‏يا بشرى‏"‏، زعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه، معلما له أنه أصاب غلامًا‏.‏ وهذا القول من السدي غريب؛ لأنه لم يُسبَق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس، والله أعلم‏.‏ وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى، ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها، كما تقول العرب‏:‏ ‏"‏يا نفسُ اصبري‏"‏، و‏"‏يا غلام أقبل‏"‏، بحذف حرف الإضافة، ويجوز الكسر حينئذ والرفع، وهذا منه، وتفسرها القراءة الأخرى ‏{‏يَا بُشْرَى‏"‏‏}‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً‏}‏ أي‏:‏ وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا‏:‏ اشتريناه وتبضّعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره‏.‏ قاله مجاهد، والسدي، وابن جرير‏.‏ هذا قول‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف، أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع‏.‏ فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابه‏:‏ ‏{‏يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ‏}‏ يباع، فباعه إخوته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقَدرَ سابق، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين‏.‏

وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإعلامه له بأنني عالم بأذى قومك، وأنا قادر على الإنكار عليهم، ولكني سأملي لهم، ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ وباعه إخوته بثمن قليل، قاله مجاهد وعِكْرِمة‏.‏

والبخس‏:‏ هو النقص، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ اعتاض عنه إخوته بثمن دُونٍ قليل، وكانوا مع ذلك فيه من الزاهدين، أي‏:‏ ليس لهم رغبة فيه، بل لو سألوه بلا شيء لأجابوا‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏:‏ إن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَشَرَوْهُ‏}‏ عائد على إخوة يوسف‏.‏

وقال قتادة‏:‏ بل هو عائد على السيارة‏.‏

والأول أقوى؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ‏}‏ إنما أراد إخوته، لا أولئك السيارة؛ لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فيرجح من هذا أن الضمير في ‏{‏وَشَرَوْهُ‏}‏ إنما هو لإخوته‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏بَخْسٍ‏}‏ الحرام‏.‏ وقيل‏:‏ الظلم‏.‏ وهذا وإن كان كذلك، لكن ليس هو المراد هنا؛ لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال، وعلى كل أحد، لأنه نبي ابن نبي، ابن نبي، ابن خليل الرحمن، فهو الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما، أي‏:‏ إنهم إخوته، وقد باعوه ومع هذا بأنقص الأثمان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ‏}‏ فعن ابن مسعود باعوه بعشرين درهما، وكذا قال ابن عباس، ونَوْف البَكَالي، والسُّدِّي، وقتادة، وعطية العَوْفي وزاد‏:‏ اقتسموها درهمين درهمين‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ اثنان وعشرون درهما‏.‏

وقال محمد بن إسحاق وعِكْرِمة‏:‏ أربعون درهمًا‏.‏

وقال الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ‏}‏ وذلك أنهم لم يعلموا نبوته

ومنزلته عند الله عز وجل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم‏:‏ استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر، فقال‏:‏ من يبتاعني وليبشر‏؟‏ فاشتراه الملك، وكان مسلمًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏

يخبر تعالى بألطافه بيوسف، عليه السلام، أنه قيض له الذي اشتراه من مصر، حتى اعتنى به وأكرمه، وأوصى أهله به، وتوسم فيه الخير والفلاح، فقال لامرأته‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها، وهو الوزير بها‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ العوفي، عن ابن عباس‏:‏ وكان اسمه قطفير‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ اسمه إطفير بن روحيب، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذ الريَّان بن الوليد، رجل من العماليق قال‏:‏ واسم امرأته راعيل بنت رعائيل‏.‏

وقال غيره‏:‏ اسمها زليخا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق أيضا، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏:‏ كان الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بُويب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ أفرس الناس ثلاثة‏:‏ عزيز مصر حين قال لامرأته‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِي مَثْوَاهُ‏}‏ والمرأة التي قالت لأبيها ‏[‏عن موسى‏]‏ ‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما‏.‏

يقول تعالى‏:‏ وكما أنقذنا يوسف من إخوته، ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ بلاد مصر، ‏{‏وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ‏}‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ هو تعبير الرؤيا، ‏{‏وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ‏}‏ أي إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه‏.‏

قال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ فعال لما يشاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يدرون حكمته في خلقه، وتلطفه لما يريد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ‏}‏ أي‏:‏ يوسف عليه السلام ‏{‏أَشُدَّهُ‏}‏ أي‏:‏ استكمل عقله وتم خلقه‏.‏ ‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ يعني‏:‏ النبوة، إنه حباه بها بين أولئك الأقوام، ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إنه كان محسنًا في عمله، عاملا بطاعة ربه تعالى‏.‏

وقد اختُلِف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ ثلاث وثلاثون‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ بضع وثلاثون‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عشرون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أربعون سنة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ خمس وعشرون سنة‏.‏ وقال السدي‏:‏ ثلاثون سنة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ثمانية عشرة سنة‏.‏ وقال الإمام مالك، وربيعة، وزيد بن أسلم، والشعبي‏:‏ الأشد الحلم‏.‏ وقيل غير ذلك،والله أعلم‏.‏